تداعيات الأزمة الروسية- الأوكرانية وبوادر «النظام العالمي ما بعد الجديد»
شهدت الخارطة الجيوسياسية لأوروبا نهاية القرن العشرين وبداية القرن الواحد والعشرين مجموعة من التغيرات والتحولات، منذ الحربين العالميتين ونهاية الحرب الباردة حيث استطاعت أمريكا بعد سقوط الاتحاد السوفيتي بسط سيطرتها على العالم بصفتها قطبًا اقتصاديًّا وعسكريًّا يقف على رأس النظام العالمي الجديد كما أسماه جورج بوش، أو نظام «اللحظة الأحادية» حسب تعبير الكاتب الأمريكي شارلز كروثمر.
لكن هذا النظام لم يستمر طويلًا مع تغير موازين القوى في العالم وعودة روسيا الاتحادية، إلى جانب بروز الصين الشعبية قوة اقتصادية وإستراتيجية لها مطامحها في شرق آسيا وغرب المحيط الهادي، وفي ظل الغزو الروسي لأوكرانيا نجد نفسنا أمام فرضية ضم روسيا لأوكرانيا الأمر الذي من شأنه أن يحدث تغيرات جيوسياسية في أوروبا، وفي أهداف حلف الناتو والنظام العالمي القائم، وبداية حقبة جديدة في التاريخ تقودها ثلاث تكتلات (الولايات المتحدة الأمريكية، روسيا، الصين الشعبية).
تعرف العلاقات الامريكية-الأوروبية فترة من التراجع والوهن، يظهر ذلك في الخلافات بين الولايات المتحدة الأمريكية والأعضاء الآخرين حول تقاسم أعباء الإسهام في حلف شمال الأطلسي، كما يظهر هذا الوهن في الخلافات حول مجموعة من القضايا الدولية وكيفية التعاطي معها. وقد تجسد هذا الخلاف بشكل جلي خلال فترة رئاسة دونالد ترامب، حيث أصبحت أمريكا «العدو» أكثر منها الصديق بالنسبة لأوروبا رغم الجهود التي قام بها سلفه أوباما، والتي لم تكن أكثر من محاولة لتجميل صورة علاقات أمريكا مع حليفها التقليدي، حيث أعلن آنذاك أن محور إستراتيجية أمريكا أصبح آسيا وأن المحيط الهادئ، وليس المحيط الأطلسي هو ما أضحى يشكل جوهر وأساس اهتمام الولايات المتحدة الأمريكية، حيث جعلت من التصدي لصعود الصين أحد الأولويات الأساسية لسياستها الخارجية.
وفي ظل تراجع العلاقات الأمريكية-الأوروبية أضحت روسيا والصين قوتين متحالفتين أكثر من أي وقت مضى، حيث جعلا من أولويات هذا التحالف إنهاء الهيمنة الأمريكية على النظام العالمي والتأثير فيه كفاعلين أساسيين، كما توج هذا التحالف بعقد روسيا لشراكات اقتصادية مع بكين من شأنها التقليل من اعتماد موسكو على عملائها التقليديين في أوروبا خاصة ما يتعلق بصادراتها من الطاقة، كما سيحد من العقوبات الاقتصادية الغربية ضد روسيا بسبب غزوها لأوكرانيا. الأمر الذي زاد من شدة التعاون الأمني الإستراتيجي الروسي-الصيني في وجه الولايات المتحدة الأمريكية، تحفزه مجموعة من المصالح، لعل أبرزها اليوم تايوان بالنسبة للصين، وأوكرانيا بالنسبة إلى روسيا.
وإذا ما نجحت روسيا في السيطرة على أوكرانيا، سيكون بإمكان القوات الروسية التمركز في غرب أوكرانيا وعلى طول الحدود الشرقية لبولندا وسلوفاكيا والمجر، وكذلك على الحدود الشمالية لرومانيا، كما ستصبح روسيا التهديد الأكثر إلحاحًا على دول البلطيق، حيث تسعى روسيا إلى فك ارتباط هذه الدول بحلف الناتو من خلال إثبات أن الحلف لا قدرة له على حماية هذه البلدان، فالاإستراتيجية الجديدة للرئيس الروسي بوتين هي إعادة تأسيس مجال نفوذ روسيا التقليدي في شرق ووسط أوروبا، وقطع علاقات الدول التي كانت خاضعة لحلف وارسو مع تحالف شمال الأطلسي.
أما الصين فإنها تسعى جاهدة إلى التوسع في جنوب شرق آسيا والسيطرة على تايوان، وإذا ما تحققت فرضية ضم روسيا إلى أوكرانيا وعدم جدوى التدخلات العسكرية الغربية ومحدودية حلف شمال الأطلسي والولايات المتحدة الأمريكية أمام غزو روسيا لأوكرانيا، (نشير هنا إلى أنه تزامنًا مع بداية العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا، خرقت تسع طائرات حربية صينية الأجواء التايوانية دون سابق تنسيق من بكين، ما يمكن عده اختبارًا لرد فعل المجتمع الدولي حول التحرك الصيني في إقليم تايوان) فإن هذا الأمر من شأنه أن يشجع الصين على اجتياح تايوان والسيطرة عليها فيما تراه بكين بكون تايوان عبارة عن مقاطعة منشقة سيعاد ضمها إلى البر الصيني في نهاية المطاف، لتستطيع الصين بذلك الهيمنة على شرق آسيا وغرب المحيط الهادي.
إن تحقق هذه الفرضية سيساهم في بلورة نظام عالمي جديد أو «ما بعد الجديد» إن صح التعبير، إذ إنه لا يمكن أن يستمر الوضع الدولي على الحال التي كان عليها خلال أربعينيات وحتى ثمانينيات القرن الماضي، فقد ولى الزمن الذي كانت فيه أمريكا هي المتحكم الأكبر في السياسة العالمية، كما أن طبيعة موازين القوى العالمية قد اختلفت، وبعيدًا عن بروز الصين منافسًا للهيمنة الأمريكية وحليفًا للعدو التقليدي لأمريكا، نجد الآن دولًا أخرى تفرض نفسها في الساحة الدولية ومثال على ذلك تركيا. كما أن تلك الهالة التي كانت تتمتع بها أمريكا خلال فترة توازن الرعب بوصفها مالكة للسلاح النووي لم تعد ذات جدوى أمام تطور الصناعات النووية في دول مختلفة عبر العالم، وتطور التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي والصناعات الحربية المتطورة، التي قد تعوض الحروب التقليدية.
ما يمكن قوله في النهاية أنه حتى مع عدم تحقق هذه الفرضية، أي السيطرة الكلية لروسيا على أوكرانيا، فإنه لا يمكن إغفال مسألة بروز ملامح وبوادر حقبة جديدة سيعرفها المجتمع الدولي بعد مرحلة الأزمة الروسية-الأوكرانية، خاصة مع ما ستخلفه من توتر للعلاقات بين روسيا وأوروبا مع حليفتها الولايات المتحدة، ولا شك كذلك أن العقوبات التي تفرضها الدول الغربية على موسكو ستزيد من التقارب بينها وبين بكين؛ إذ حتى مع نهاية هذه الأزمة بغض النظر عن نتائجها، ستكون أمريكا وأوروبا الهدف المباشر للتحالف الروسي-الصيني، كما أنه ليس من الضروري أن يكون النصر إحراز تسوية مستدامة، بل يمكن أن يقتصر بالنسبة لروسيا على تنصيب حكومة مطيعة في كييف أو على تقسيم أوكرانيا، خاصة أننا في بداية تصاعد الأزمة؛ مما يجعل من الصعب التنبؤ بنتائجها.
- رابط المقال على موقع "ساسة بوست" : الرابط